کد مطلب:239579 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:148

الاکذوبة المفضوحة
و بعد .. فقد ذكر بعض أهل الأهواء، كابن قتیبة، و ابن عبدربه، واقعة خیالیة، غیر تلك التی ذكرناها آنفا و هی :

أن المأمون قال لعلی بن موسی : علام تدعون هذا الأمر ؟! ..

قال : « بقرابة علی و فاطمة من رسول الله (ص) .. »



[ صفحه 331]



فقال المأمون : ان لم تكن الا القرابة، فقد خلف رسول الله (ص) من هو أقرب الیه من علی، أو من هو فی قعدده . و ان ذهبت الی قرابة فاطمة من رسول الله (ص)؛ فان الأمر بعدها للحسن، و الحسین؛ فقد ابتزهما علی حقهما، و هما حیان ، صحیحان، فاستولی علی ما لا حق له فیه .. » .

فلم یحر علی بن موسی له جوابا [1] انتهی ..

و هی واقعة مزیفة و مجعولة من أجل التغطیة علی الواقعة الحقیقیة، التی جرت بینهما، و التی تنسجم مع كل الأحداث و الوقائع، و جمیع الدلائل و الشواهد متظافرة علی صحتها، ألا و هی تلك التی قدمناها آنفا ..

و الدلیل علی زیف هذه الروایة : أنها لا توافق نظرة أئمة أهل البیت و رأیهم فی الخلافة و مستحقها ؛ لأنهم یرون - كما تدل علیه تصریحاتهم المتكررة، و أقوالهم المتضافرة - : أن منصب الامامة لا یكون الا بالنص .

و أما الاستدلال بالقرابة ؛ فقد قلنا فی الفصل الأول من هذا الكتاب : أن أول من التجأ الیه أبوبكر ، ثم عمر. ثم الامویون، فالعباسیون، ثم أكثر، ان لم یكن كل مطالب بالخلافة .. و أنه اذا كان فی كلام الأئمة و شیعتهم ما یفهم منه ذلك، فانما اقتضاه الحجاج مع خصومهم .

و بعد .. فهل یخفی علی الامام (ع) ضعف و وهن هذه الحجة؛ مع أننا نراه یصرح فی أكثر من مناسبة بأن القرابة لا تجدی و لا تفید - كما سنشیر الیه - و انه لابد فی الامام من جدارة و أهلیة فی مختلف الجهات، و علی جمیع المستویات .

و لقد كان علی المأمون - لو صحت هذه الروایة - أن یغتنمها فرصة،



[ صفحه 332]



و یعلنها علی الناس جمیعا، و یشهر بالامام (ع) ؛ لیسقطه - و من ثم .. یسقط العلویین كلهم من أعین الناس .. و یسلبهم و الی الابد السلاح الذی كانوا یحاربونه و یحاربون آباءه به .. مع أن ذلك هو ما كان یبحث عنه المأمون لیل نهار، و یدبر المكاید، و یعمل الحیل، من أجله، و فی سبیله ..

و عدا عن ذلك كله .. كیف یمكن أن تنسجم هذه الروایة مع مواقف الامام، و تصریحاته المتكررة حول مسألة الامامة، و بأی شی ء تثبت، و حول أوصاف الامام و وظائفه، و التی لو أردنا استقصاءها لاحتجنا الی عشرات الصفحات ؟!! .

و كذلك .. مع احتجاج الامام (ع) علی العلماء و المأمون فی اكثر من مناسبة بالنص، و أیضا مع موقفه (ع) فی نیشابور ؟!

اللهم الا أن یكون أعلم أهل الأرض - باعتراف المأمون قد نسی حجته، و حجة آبائه، و كل من ینتسب الیهم، و یذهب مذهبهم .. تلك الحجة - التی عرفوا و كل المتشیعین لهم بها علی مدی الزمان - نسیها - فی تلك اللحظة فقط ؛ لأن المأمون هو الذی یسأل، و الرضا هو الذی یجیب !!! .

و بعد ؛ فهل یستطیع أن یشك فی ذلك أحد .. و هو یری رسالة الرضا، التی كتبها للمأمون تلبیة لطلبه، و جمع له بها أصول الاسلام، و التی صرح فیها بالنص علی علی (ع) . بل و ذكر فیها الائمة الاثنی عشر، الذین نص علیهم النبی (ص) كلهم بأسمائهم، حتی من لم یكن قد ولد بعد منهم ؟! . و هذه الرسالة مشهورة و قد أوردها و استشهد بها غیر واحد من المؤرخین و الباحثین [2] .



[ صفحه 333]



و فیها یصف الامام (ع) أئمة الهدی أدق وصف، و أروعه، و أوفاه ..

بل ان المأمون نفسه كان یری وجوب نصب الامام من قبل الله كالنبی، كما یتضح من مناظرته الشهیرة لعلماء وقته، التی أوردها غیر واحد من كتب التاریخ، و الأدب، و الروایة، و ذكرها فی العقد الفرید أیضا قبل ذكره لهذه الروایة المفتعلة. و ان كان قد تصرف فیها (أی فی المناظرة) ؛ فحرف فیها، و حذف منها الكثیر .. و أشار الیها أیضا أحمد أمین فی ضحی الاسلام ج 2 ص 57، و غیره ..

فلماذا لا یلزمه الامام بمقالته التی كان یلزم نفسه بها ؟! . أم یمكن أن لا یكون مطلعا علی مقالة المأمون هذه، التی سار ذكرها فی الآفاق ؟! .

و یحسن بنا هنا أن ننبه الی أن الاختلاف فی نقل مثل هذه القضایا، حسب أهواء الناقلین لم یكن بالأمر الذی یخفی علی أحد؛ فقد رأینا : أن جواب أحمد بن حنبل فی المحنة بخلق القرآن، یرویه كل من الشیعة، و المعتزلة، و أهل السنة بصور ثلاثة مختلفة . و مناظرة هشام لأبی الهذیل العلاف یروی المعتزلة أن الغلبة فیها كانت لأبی الهذیل، بینما یروی الشیعة، و یؤیدهم المسعودی [3] أن الغلبة فیها كانت لهشام . الی غیر ذلك من عشرات القضایا بل المئات ..

و لكن الأمر هنا مختلف تماما ؛ اذ أن مختلق الروایة هنا قد غفل عن أن روایته المفتعلة تتنافی كلیا مع نظرة الأئمة علیهم السلام و رأیهم فی الخلافة و مستحقها .. و یبدو أنه لم یكن مطلعا علی الآراء المختلفة الشائعة آنذاك فی مسألة الامامة ؛ و لذا نراه ینسب الی الامام (ع) رأیا لا یقول به، و لا یقره . و انما هو یناسب رأی الشیعة الزیدیة القائلین بامامة ولد علی (ع) من فاطمة ؛ بشرط أن یكون بلیغا، شجاعا، عادلا مجتهدا،



[ صفحه 334]



یخرج بالسیف ضد كل ظلم و انحراف الخ .. و بأن امامة علی (ع) قد ثبتت بالوصف و الاشارة الیه، لا بالتصریح و النص علیه [4] .

كما أنه غفل عن أن الذین كانوا یحتجون بالقرابة و الارث هم العباسیون، الذین كانوا الی عصر المهدی - كما قدمنا - یدعون انتقال الخلافة الیهم عن طریق علی (ع)، و محمد بن الحنفیة، و فی عصر المهدی عدلوا عن ذلك ؛ لما یتضمنه من اعتراف للعلویین . و رأوا أن یجعلوا امامتهم عن طریق العباس و أبنائه .. و حاولوا تقویة هذه النحلة بكل وسیلة، و بذلوا من أجلها الأموال الطائلة للعلماء و الفقهاء، و الشعراء . و لم یكن لتخفی علی أحد أبیات مروان بن أبی حفصة المتقدمة :



هل تطمسون من السماء نجومها

أو تسترون الخ ...



و لا قوله :



أنی یكون و لیس ذاك بكائن

لبنی البنات وراثة الأعمام



و قد أجابه جعفر بن عفان المعاصر له . علی هذا البیت بقوله :



ما للطلیق و للتراث و انما

صلی الطلیق مخافة الصمصام [5] .



و كیف یخفی كل ذلك علی الامام (ع)، خصوصا بعد أن كان الجدل فی هذا الموضوع قائما علی قدم و ساق فی زمن هارون، بل و فی زمن المأمون كما یظهر من قول ابن شكلة المتقدم :



فضجت أن تشد علی رؤوس

تطالبها بمیراث النبی



[ صفحه 335]



و من قول القاسم بن یوسف و هی قصیدة طویلة فلتراجع [6] .

الی غیر ذلك مما لا مجال لتتبعه و استقصائه .. و بعد كل تلك الوقائع الشهیرة التی حدثت قبل خلافة المأمون، و اثناءها بالنسبة لدعوی العباسیین هذه ؛ فلا یمكن أبدا أن تجری المحاورة بین أعلم أهل الأرض (باعتراف المأمون ) و بین المأمون أعلم خلفاء بنی العباس علی هذا النحو من السذاجة و البساطة .. اللهم الا اذا كان أعلم أهل الارض، لا یری و لا یسمع، أو أنه كان یعیش فی غیر هذا العالم، أو فی سرداب تحت الأرض .. و أللهم الا اذا كان القائل : ما للطلیق و للتراث الخ .. أعلم بالحجة للدعوی التی یدعیها أعلم أهل الأرض من مدعی الدعوی نفسه .. و هل لم یكن یحسن أن یقول للمأمون - لو سلم أنه احتج بالقرابة - : ان قرابة العباس لا تفیده؛ بعد أن تخلی عنها یوم الانذار . و بعد أن كان من الظالمین، الذین حرمهم الله من عهده ؛ حیث قال تعالی : « لا ینال عهدی الظالمین » . و بعد أن ترك الهجرة معه (ص) . و بعد أن حارب النبی (ص) یوم بدر . و بعد جهله بالدین و احكامه ؛ و لقد قال سبحانه : « أفمن یهدی الی الحق أحق أن یتبع، أمن لا یهدی الا أن یهدی، فما لكم كیف تحكمون .. » [7] الی آخر ما هنالك ..

و أخیرا .. و بعد أن لم یبق مجال للشك فی زیف هذه الروایة و افتعالها .. فاننا نری أن لنا كل الحق فی أن نسجل هنا : أنه لم یخف علینا، و نأمل أن لا یخفی علی أحد سر ذكر ابن عبدربه هذه الروایة المزیفة المفتعلة، بعد ذكره لروایة احتجاج المأمون علی علماء وقته فی أفضلیة علی (ع) علی جمیع الخلق ، و التی تصرف فیها ما شاء له حقده و نصبه،



[ صفحه 336]



الحذف و التحریف؛ فانه - علی ما یبدو - لیس الا من أجل التشویش علی تلك، و ابطال كل أثر لها، ظلما للحقیقة، و تجنیا علی التاریخ ..


[1] راجع : عيون الاخبار ج 2 ص 141 ،140، طبع مصر سنة 1346، و العقد الفريد ج 5 ص 102، و ج 2 ص 386، طبع دار الكتاب العربي.

[2] و كان آخرهم الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه : نظرية الامامة ص 388، و قال : انها من المخطوطات الموجودة في دار الكتب المصرية تحت رقم 1258.

[3] مروج الذهب ج 4 ص 21.

[4] مقدمة ابن خلدون ص 197 ر 198.

[5] مقتل الحسين للمقرم ص 119، و الاغاني ج 9 ص 45، طبع ساسي، و الادب في ظل التشيع ص 201، و ضحي الاسلام ج 3 ص 313، و قاموس الرجال ج 2 ص 393، و غير ذلك.

[6] الاوراق للصولي ص 180. و قد تقدم شطر منها في بعض فصول هذا الكتاب.

[7] يونس آية 35.